كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال أرمياء: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت إني معك، ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم، ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية وقال في آخرها: عن الله حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جبارًا قاسيًا ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى أرمياء أني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل فسلط عليهم بختنصر فخرج من ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا، يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه.
ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذي اخترتهم من بني إسرائيل، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ثلثًا أقرهم بالشام وثلثًا سباهم وثلثًا قتلهم وذهب باناث بيت المقدس، وبالصبيان السبعين ألفًا حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله سبحانه وتعالى:
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}.
{فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عبادًا لنا أولي بأس شديد} يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن يختنصر أقام في سلطانه ما شاء ثم رأى رؤيا عجيبة إذا رأى شيئًا أصابه فأنساه الذي رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال: ما أذكرها ولئن لم تخبرني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا: رأيت تمثالًا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد قال: صدقتم قالوا: فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال: صدقتم فما تأويلها قالوا: تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكًا، وبعضهم، كان أحسن ملكًا وبعضهم كان أشد ملكًا، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنك بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله، وقالوا: يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم، وما هذا البيت؟ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم، فلما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكًا فإني قد فرغت من أهل الأرض، قالوا: ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عليه بقدرته بعوضة، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها، وليس معهم من الله عهد.
كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره.
قال: أفتحب أن يرد إليك قال: نعم قال: ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدًا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكًا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة، فأحبوه حبًا لم يحبوا حبه شيئًا قط، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل فريقًا يكذبون وفريقًا يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكًا من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسًا من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدًا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دمًا يغلي فسألهم عنه فقال: يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره.
فقالوا: هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة، فتقبل منا إلا هذا فقال: ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زمانننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحًا، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل ويلكم أصدقوني وأصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا.
وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا: يحيى بن زكريا قال: الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدًا وقال لمن حوله: أغلقوا ابواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، ومن قتل منهم فاهدأ باذن ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدًا إلا قتلته فهدأ الدم باذن الله تعالى، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأيقنت أنه لا رب غيره.
وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقًا، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال الحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذي قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونايين، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس المقدس ابن أسبيانيوس الرمي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصَّغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابًا إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام: أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابًا رقاقًا حمرًا وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت: رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا.
قالت: ما أريد غير هذا فلما أبت عليه، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول: لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي، ويلقى عليه التراب، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس، وقتل سبعين ألفًا حتى سكن دمه.
{عسى ربكم أن يرحمكم} يعني يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم {وإن عدتم} أي إلى المعصية {عدنا} أي إلى العقوبة.
قال قتادة فعادوا فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم: فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} أي سجنًا ومحبسًا من الحصر الذي هو مجلس الحبس، وقيل: فراشًا من الحصير الذي يبسط ويفترش.
قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل: إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهاة أن لا إله إلا الله {ويبشر} يعني القرآن {المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا} يعني الجنة {وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابًا أليمًا} يعني النار في الآخرة {ويدع الإنسان} أي على نفسه وولده وماله {بالشر} يعني قوله عند الغضب: اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك {دعاءه بالخير} أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه {وكان الإنسان عجولًا} أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه، وقال ابن عباس: ضجرًا لا صبر له على سّراء ولا ضراء.
قوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان: أحدهما: أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبرًا يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب.
والقول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر {فمحونا آية الليل} أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسًا مظلمًا لا يستبان فيه شيء {وجعلنا آية النهار مبصرة} أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة.
قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءًا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءًا، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء عليًا عن السواد الذي في القمر، فقال هو أثر المحو {لتبتغوا فضلًا من ربكم} أي لتتوصولوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم {ولتعلموا} أي باختلاف الليل والنهار {عدد السنين والحساب} أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس والقمر، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة.
واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنين، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار {وكل شيء فصلناه تفصيلًا} يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بيانًا شافيًا واضحًا غير ملتبس قيل: إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال، وكل شيء فصلناه تفصيلًا قوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} قال ابن عباس: عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان.
وقيل: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به.
وقيل: ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقيل: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليهم من سعادة أو شقاوة، وقيل: هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما يزين أو يشين فإن كان عمله خيرًا كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه، وإن كان عمله شرًا كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه ويخرج له بقول تبارك وتعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا} قيل: بسطت للإنسان صحيفتان وووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته.